
قِصةُ أَصْحَابِ الجَنة
هي من روائع القصص التي تحمل المنفعة للناس في كل زمان، حيث يتكرر مضمونها يومياً في المجتمع البشري، وعندما تعرفون أحداثها سوف تدركون بأن كثيراً ممن حولنا ينطبق عليهم ما قد حدث في ذلك الزمان وأنه لم يتغير سوى الأشخاص والوقت.
لقد لقيَتْ هذه القصة عنايةً خاصةً في القرآن الكريم الذي مثّل بها للكرم وآثاره، والبخل وعواقبه، حيث تحدثت عن فضيلة السخاء وثواب الصدقة وآثارها على الإنسان في الدنيا قبل الآخرة، وعاقبة المانع للعطاء كيف يخسر كل شيء في النهاية ويعيش في حسرة قاتلة.
وتتمحور أحداثها حول أشخاص كرماء وآخرين بخلاء وأشخاص في الوسط.
ولأهمية مضمونها وضرورة التعرّف عليه فقد اهتم بها العلماء عبر الزمن ونقلوها للناس وجعلوها من أمهات الحكايات التي تُروى، ونحن بتوفيق الله تعالى نسير بسيرتهم ونعمل ما كانوا يعملون مع محيطهم لأنهم ونحن وأنتم مسؤولون أمام الله تعالى عن التعلّم والتعليم.
وعنوان قصتنا(أصحاب الجنّة) وليس المقصود بالجنةِ هنا جَنَّةَ الله سبحانه التي أعدَّها للمخلصين الطائعين من عباده، بل المراد بها تلك الحديقة الجميلة والمثمرة التي كان يملكها أحد الصالحين، ثم ورِثها أبناؤه بعد موته، وإليكم تفاصيل القصة.
نبدأ كالعادة بالنص القرآني المبارك(إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ * وَلَا يَسْتَثْنُونَ * فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِّن رَّبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ * فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ)
حدثت هذه القصة في الفترة الفاصلة بين ارتفاع عيسى(ع) إلى السماء ومبعث خاتم الأنبياء محمد(ص) في اليمن، وقيل في الشام، وقيل في الطائف، ولا عبرة في المكان والزمان فيها، بل العبرة في مضمونها.
كان لأحد الصالحين في أرض الله الواسعة حديقة فائقة الجمال، جمالها كالخيال، أشجارها كثيرة، وثمارها وفيرة، وخيراتها غزيرة وحبوبها تنبض بالحياة يأكل منها كل فقير فضلاً عن أصحابها، وكانت البركة تحصل فيها كل عام حيث ما كان لله ينمو، وكان أكثر نتاج تلك الحديقة يُوزع على الفقراء والمحتاجين قبل أن تدخل حبة واحدة من المحاصيل بيتَ المالك الذي كان يوزّع الثلثين ويأكل هو وعياله الثلث.
وكانت موضع دهشة الناس آنذاك حيث لا شبيه لها في كل المنطقة، فبعضهم كان يحسد أهلها، وآخرون يغبطون أصحابها، وجُلّكم يعرف الفرق بين الحسد والغِبْطة، فالأول صفةٌ رذيلة، والثاني سلوكٌ جميل.
وكان بيت صاحب الحديقة مقصَداً للفقراء والضيوف الذين طالما لمسوا الخير من هذا البيت وصاحبه الذي كان يُنفق الكثير مما تجنيه جنّته، وكان هي تجني له أكثر بفضل الله عز وجل الذي ضاعف في الحسنات وبارك في العطاء.
ولكنّ سعادته لم تكتمل فقد امتحنه ربّه بأبنائه الثلاثة حيث كان اثنان منهم طمّاعَين بخيلَين يعارضان أباهما في إنفاقه، وهو يعظهما ويردّ اعتراضهما بأدب وإحسان علّهما يتعلّمان من أبيهما الخير ويدركان سرّ البركة في رزقهم.
وكان الثالث منهم باراً مؤمناً كأبيه يشجع أباه على الإنفاق أكثر، وكان هذا الشاب كثير التسبيح، وقد وصفه القرآن بالأوسط، وللأوسط معنيان: إما أن يراد بهذه الكلمة أنه أوسطهم في الرأي، أو أوسطهم في العمر، وكلاهما يصح.
بقي الرجل الصالحُ صاحبُ الجنة ملتزماً بما عاهد اللهَ عليه طيلة حياته، وكان قد عاهد نفسه وربه أن يعطي ثلثي محصول الجنة للفقراء، وقد اعتاد الفقراء على ذلك لسنوات طويلة، فلم يشعر أحد منهم بالجوع بفضل الله وفضل هذا العبد الصالح إلى أن أُصيب بمرضٍ أقعده عن الحركة، فجمع أولاده الثلاثة وأوصاهم بأن يعاملوا الفقراء بالحسنى كما كان يعاملهم وأحسن، مبيّناً لهم أنّ المال مالُ الله سبحانه، وأنّ الإنسان لا يستفيد من هذه الدنيا إلا بمقدار إحسانه واهتمامه بذوي الحاجة، فلم يجد تجاوباً إلا من ابنه الأوسط، أما الآخران فكانا مشغولَين بالإرث والثروة ينتظران موت أبيهما حتى يحرموا المحتاجين من العطاء طمعاً منهم بالمال، حيث أعمى حبُّ الذهب قلوبهم وأفرغها من الرأفة والإنسانية، فلم يعطفا على فقير ولم يُقريا ضيفاً بعد موت أبيهما، وبهذا أصبحا لقمة سهلة للشيطان الغوي يحقق من خلالهما مراده العدائي ضد البشر.
وانتقل العبد الصالح إلى رحمة ربه واستولى الأخَوان الطامعان على كل شيء وأغلقا باب دارهما كيلا يدخل عليهما فقير، فلم يخشيا ربهما ولم ينفّذا وصية أبيهما حيث تملّكهما الجشع والطمع، وكان أخوهما المؤمن ينصحهما فلم يسمعا له، وقد هدداه بحرمانه من إرث أبيه إن لم يتبعهما على ضلالهما.
وكان أبوهم قد أوصاهم بأن لا يتفرقوا ولا يتخاصموا مع بعضهم، وهذا ما جعل أخوهما المحسن يصبر على أذاهما.
وقد خطرت لهما فكرة، وهي القَسَم على أن لا يطعموا مسكيناً، وقد فرضوا القسم على أخيهما الذي أقسم خشية الفرقة التي تذهب بوصية أبيهم الطيب.
وهذا ما أشار إليه القرآن الكريم بقوله(إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ) أي يريدون قطف الثمار وحصاد الحبوب في وقت مبكّر قبل أن يستيقظ المساكين.
(فَتَنَادَوا مُصْبِحِينَ * أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إِن كُنتُمْ صَارِمِينَ * فَانطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ * أَن لَّا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُم مِّسْكِينٌ)
ساروا باتجاه جنتهم وهم يتخافتون كيلا يسمعهم أحد، ووصلوا إلى جنتهم وهناك كانت المفاجأة القاتلة.
لقد تحولت تلك الجنة المثمرة بقدرة الله إلى رماد حيث أنزل الله عليها في تلك الليلة شُهباً من السماء فأحرقها ولم يبق لها أي أثر، فللوهلة الأولى ظنوا أنهم تاهوا عن الجنة، فراحوا يصولون ويجولون ويبحثون جيداً وهم في حيرة من أمرهم حيث أن الذي جرى لا يُصدّق، وهناك أخبرهم أخوهم المؤمن بأنّ تعالى الله عاقبهم نتيجةً لسوء عملهم وحرمانهم الفقراء من الحق المفروض عليهم.
وقد بيّن لهما أن ما حصل إنما كان بسبب طمعهما لأن المال مال الله سبحانه، وما الإنسان سوى مؤْتَمَن على تلك الوديعة التي يجب أن يُحسن التصرف بها، فيجب أن يحصل عليها بطرق الحلال، وينفقها في الحلال.
وبعدما رأوا تلك الآية اعترفوا بذنبهم واستغفروا ربهم الذي رزقهم بعد التوبة بجنة أفضل من التي كانت في زمن أبيهم وذلك عندما أخلصوا النية لله وأظهر الندم وعملوا بمقتضاه وساروا بسيرة أبيهم.
وفي ذلك قال سبحانه(فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ * بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ * قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ لَوْلَا تُسَبِّحُونَ * قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ * فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلَاوَمُونَ * قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ * عَسَى رَبُّنَا أَن يُبْدِلَنَا خَيْرًا مِّنْهَا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ)
ولا شك بأنّ الدرس من وراء هذه القصة أضحى واضحاً، ونسأل الله أن لا نوقع أنفسنا في الهلاك كما أوقع أولئك أنفسهم بسبب بخلهم وطمعهم.
الشيخ علي فقيه