الموت وما بعده

سِلْسِلَةُ المَوْتِ وَمَا بَعْدَه

القِيَامَةُ الحَقِيقِيةُ وَالقِيَامَةُ المَجَازِية

 

 

القِيَامَةُ الحَقِيقِيةُ وَالقِيَامَةُ المَجَازِية

 

قال الرسول الأكرم(ص) : إذا مات أحدكم فقد قامت قيامته:

ذكرنا أن المعنى المراد بالقيامة متعدد، فتارة يكون المقصود بها (الموت) وتارة يكون المقصود بها (الحياة)  فإذا قصدنا بها الموت كان المراد بالقيامة القيامة الخاصة أو القيامة المجازية أو القيامة التي تعتبر نافذة وباباً للقيامة العامة والحقيقية، وإذا قصدنا بها الحياة كان المقصود بها حياة ما بعد الموت، وهي التي عبّرنا عنها بالقيامة العامة، وهنا لا بد من التمهيد والتقديم حتى نفهم المراد من قول النبي:إذا مات أحدكم فقد قامت قيامته: إذ كيف عبّر عن الموت بالقيامة، مع أن معنى القيامة هو الحياة، أعني الحياة بعد الموت؟ فلا بد من إدراك المقصود حتى نزيل الشك تجاه معنى هذا الحديث الشريف الذي يُعتبر من الأحاديث الصحيحة.

ولأجل ذلك نقول: يوجد في لغة العرب إستعمالان للألفاظ: الأول وهو الإستعمال الحقيقي، كما لو قلت (أسد) وقصدت به الحيوان المفترس، والثاني: هو الإستعمال المجازي، كما لو قلت (أسد) وقصدت به الرجل القوي والشجاع لوجود مناسبة بين المعنيين حيث يجمعهما القوة، فإن الأسد قوي والرجل الشجاع قوي، وهذه الإستعمالات كثيراً ما توجد في البيانات الشرعية والخطابات الدينية كما في قوله تعالى(فأمُّه هاوية) أي أم رأسه، والذي يهوي ليس أم الرأس فقط وإنما الإنسان كله، وإنما عبّر عن الإنسان بأعلى جزء من بدنه وهو أم الرأس، وكذلك يعبّر القرآن الكريم عن الموت بالساعة، والساعة إسم من أسماء القيامة، فيقول(وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِّنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ) والدليل على كون الساعة هي يوم القيامة قوله تعالى(وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ) وهذان نموذجان  لهذا النوع من استعمال اللفظ، ولو بحثتم في الكتاب العزيز لوجدتم عشرات الآيات التي عبّر بها بطريق المجاز.

فهناك أمور لها مقدمات ونتيجة أو خاتمة، فيصح أن تسمي الجوهر باسم المقدمة أو النتيجة، وهو من الإستعمالات التي تعاطاها اللسان العربي الفصيح، ولكي نفهم المراد بقوله(ص) :فقد قامت قيامته : ينبغي أن نذكر مثالاً خاصاً كتمهيد لفهم الحديث الشريف، فمثلاً قد يقوم شخص إلى مكان الوضوء ليتوضأ من أجل الصلاة فتسأله ماذا تريد أن تفعل؟ فيقول لك: أريد أن أصلي ولا يقول لك أريد أن أتوضأ، فيعبر عن الوضوء بالصلاة، لأن الوضوء مقدمة للصلاة، وكذلك يصح أن تقول عن الإنسان الذي يموت بأنه قامت قيامته لأن الموت مقدمة للقيامة الحقيقية، فيكون استعمال القيامة في الموت من باب المجاز، ولعله(ص) قصد ذلك في الحديث لأن الموت يسوق الإنسان إلى القيامة اضطراراً وليس باختياره، وبما أن النتيجة حتمية لا تتغير ولا تتبدل فصح أن يعبَّر عن الموت بالقيامة.

فالموت أول منازل الآخرة، والميت يدفن في قبره، والقبر من منازل الآخرة، وحضور الملكين للروح في القبر من الآخرة، وعالم البرزخ من الآخرة، وقد اتفق الجميع على كون القبر والبرزخ من منازل الآخرة مع أنهما ليسا الآخرة وإنما هما من مقدماتها.

ولم يكن(ص) هنا في مقام بيان الآخرة، وإنما كان في مقام الوعظ والإرشاد، إذ لو كان في مقام بيان الآخرة لحدثنا عنها بالتفصيل، وقد حدثنا عن الآخرة والقيامة في العديد من النصوص التي نذكرها في محلها إن شاء الله تعالى.

لقد استغل النبي هذا الموقف في وعظهم وتحذيرهم من المعصية ونتائجها بدليل ما ورد في ذيل الحديث المذكور: فاعبدوا الله كأنكم ترونه: أي اعبدوه بصدق وحق وكأنكم تنظرون إليه لأن الشعور بالنظر إلى الله تعالى أو بنظر الله لهم يصحح العبادة ويجعلها مثمرة ونافعة.

وكذلك دعاهم الرسول إلى الإستغفار المتكرر كيلا يدركهم الموت وعليهم تبعات يُسألون عنها في يوم القيامة، وهو من المخاطر الشديدة على الإنسان ومصيره الأخروي، إذ قد يكون الحرام الذي يراه الإنسان صغيراً سبباً في هلاكه يوم النشور.

فالقيامة إما أن يقصد بها معناها الحقيقي أو معناها المجازي ويصح استعمال المجاز في الموت لأنه باب الآخرة.

 

القِيَامَةُ القَرِيبَةُ وَالقِيَامَةُ البَعِيدَة

 

نقرأ في القرآن الكريم كثيراً من الآيات التي تحدثنا عن يوم القيامة، ونطالع عشرات الأحاديث التي تذكر هذا الشأن الكبير، ولكن أكثر المفاهيم التي ندركها حول خصوصيات وتفاصيل ذلك اليوم سطحية ومجردة، وهذا اليوم يستحق منا البحث والسعي الدؤوب من أجل معرفته حتى يعرف الواحد منا المصير الذي سوف يؤول إليه والمراحل التي سوف يمر بها فيجهز نفسه لمواجهة تلك المواقف الصعبة.

ويوم القيامة من خصوصيات الله تعالى، قال سبحانه(إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ) وقال(يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا  فِيمَ أَنتَ مِن ذِكْرَاهَا  إِلَى رَبِّكَ مُنتَهَاهَا)

وكلامنا هنا حول القيامة التي تارة نقول بأنها بعيدة، ومرة نقول بأنها قريبة، ويمكن القول بأنها في نظر الناس بعيدة وفي نظر الله تعالى قريبة، لأن الزمن وإن طال في نظر الله عز وجل فهو قصير، وكل آت قريب وإن بعد زمنه.

وهذا الذي يحسبه المرء بعيداً سوف يدرك بعد الموت وعند النشور أن العمر الذي قضاه في الدنيا كان قصيراً جداً وذلك عندما يلمس قرب القيامة فيقول حينئذ بأنني لم ألبث في الحياة سوى ساعة، وإليه يشير الله تعالى بقوله(وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ كَذَلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ) وبقوله عز من قائل(كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا)

ويمكن أن تكون القيامة قريبة في نظر الذين فهموا معنى الدنيا والآخرة وأدركوا بأن الموت قد يأتيهم بين لحظة ولحظة، وإذا كانت الحياة غير متوجة بالإطمئنان فلا يأنس بها ساكنها، وهذا يعني أنه لم يعش لحظة أو سوى لحظة، وكذلك تكون قريبة في نظر الإنسان إذا اعتبر أن القيامة تتحقق بالموت، وإن الموت أقرب شيء لذوي الأرواح.

فالقيامة قريبة وإن تأخرت ملايين السنين لأن الإنسان في الدنيا قد يفارق الحياة بين لحظة ولحظة، وإذا فارقها ودفن فمهما طال مكوثه فلا يشعر بطول المدة، وقد أعطانا ربنا سبحانه دروساً حول هذه الحقيقة نذكر منها درسين:

الدرس الأول: موت العزير الذي أماته الله مئة عام ثم بعثه وعندما بعثه سأله كم لبثت قال يوماً أو بعض يوم أي جزءاً من اليوم فأخبره ربه بأنه لبث مئة سنة فتفاجأ للأمر وأدرك قدرة الله عز وجل. وفيه قال تعالى(فَأَمَاتَهُ اللّهُ مِئَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَل لَّبِثْتَ مِئَةَ عَامٍ)

الدرس الثاني: أهل الكهف الذين ناموا بقدرة الله تعالى ثلاثمئة وتسع سنين وظنوا بأنهم ناموا ليلة واحدة، وهكذا الأمر عندنا فمهما طال عالم البرزخ فعند القيامة لن نشعر بطول المدة بل سوف نشعر وكأننا لبثنا دقائق معدودة، والأمر هذا لا يختص بالموت فقط وإنما بالنوم فالذي ينام ليلة أو ثلاثمئة سنة فعندما يستيقظ لن يشعر بطول المدة التي نام فيها، وفي هذا الدرس المعجزة الدال على عظيم القدرة قال سبحانه(فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا  ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا) وقال سبحانه(وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِّنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ) وقال(وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا)

فثلاث مئة سنة وأكثر هو وقت طويل في نظر المخلوقين، أما في نظر الخالق فهو وقت قصير لأنه لا يتأثر سبحانه بطول الزمن، فهو عنده كلمح البصر، وإلى ذلك يشير بقوله(وَلِلّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلاَّ كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) وفي نفس الوقت فإنه تعالى يعلم بأن هذا الوقت طويل في نظر الإنسان ولكن الإنسان الذي ينام أو يموت لا يدرك طول المدة إلا إذا أخبره تعالى بذلك كما حصل للعزير وأهل الكهف.

ولو نظرنا إلى الذين ماتوا من آلاف السنين لوجدنا أنهم نائمون بقدرة الله لم يشعروا بطول القرون التي مكثوا فيها والتي سوف تمر عليهم حتى يوم القيامة، وكذلك نحن سوف ننام كما ناموا والأمر كله بيد الله تعالى فمهما ظننا بأن القيامة بعيدة فلن يكون ظننا في مكانه لأن الواقع غير ما نظن(وَقَالُواْ أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا قُل كُونُواْ حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا  أَوْ خَلْقًا مِّمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَن يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُوسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَن يَكُونَ قَرِيبًا  يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً)

الشيخ علي فقيه

الشيخ علي الفقيه

قال سبحانه( واذكر ربك حتى يأتيك اليقين) إن ذكر الله عز وجل لا ينحصر بجارحة اللسان بل يجب أن ينبع من صميم القلب وتترجمه الطاعة الصادقة التي تتحقق بفعل الواجب والمستحب وبترك كافة المحرمات جعلنا الله واياكم من الذاكرين العابدين الصادقين الشيخ علي فقيه

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى